البطل المنتظر ............
لقد جرت عادة الله في خلقه أن تأتي أمم وتزول أخرى، وتسيطر شعوب وتخنع
شعوب، وتقوم دولة على أنقاض دولة، وهكذا تدور عجلة الحياة، ورحى الزمان..
وقد ارتبطت هذه التقلبات دائماً بأسماء مشهورة، بقي بعضها خالد الذكر في
التاريخ، واندرس بعضها الآخر في طيات الزمان وتعاقب الأيام، ولكن تبقى هذه
الأسماء دائماً علماً ثابتاً لانقلاب جديد في مسيرة أمة من الأمم، أو شعب
من الشعوب.. فإن هذه الرموز كانت سبباً في تحطم المألوف، وتغيير المعروف..
والمتعقب للحوادث التاريخية يجد أماكن وحوادث مقرونة بأسماء زائريها
وفاتحيها، ويجد جميع حركات التحرر أو الثورة أو التغيير تنسب لشخص معين
باسمه.. فهل هذا كله يعني أنه لابد من وجود شخص ما ليحصل التغيير؟!..
إن وقائع التاريخ والقصص والسير الماضية تجعل من أشخاص بعينهم قادة لكل
جديد، سواء كان فتحاً أو تغييراً سياسياً أو انقلاباً.. ولعلك تشعر مع سرد
التواريخ بأنه لا وجود لتغيير ما في سلسلة تاريخية لولا وجود هذا الاسم
الذي كان قائدها وصاحبها. ولكن هل هذه هي الحقيقة دائماً؟! وهل نحن بحاجة
إلى قائد وبطل منتظر ليعيد لنا مجد الأمة الفائت؟! أو يستطيع هذا البطل أن
يقلب الأمور لنكون في أول القطار بدل الجري وراءه؟!..
وفي المقابل، فقد مرّ التاريخ مرور الكرام على أشخاص وأسماء محا الناس
ذكرهم، لأن هذه الأسماء لم تعدُ أن تكون مجرد عوارض وهمية، ولم يكن لها
أثر أو تغيير ما في مجتمعات الأمم، فلم تكن أكثر من سحابة صيف مرت وانقضت
بدون أن يلحظها أحد.. فهل كان لدى أبطال التاريخ مؤهلات وعبقريات وشجاعة
أكثر من هؤلاء؟!.. أم أن الفرص كانت مواتية لبعضهم ومعارضة للآخرين؟!.
إن دراسة التاريخ عملية شائكة، فعادة الناس أن تكتب ما تحب أن تكتبه،
وتظهر وتبهرج ما يرفع شأن أمتها وحضارتها، وفي الوقت نفسه فإنهم قد يغفلون
أحداثاً وأسماء خرجت بخيبة الأمل، وكان الفشل حليفها واليأس رفيقها،
ولكنهم لا يحبون إعادة الحديث عنها، فيطوون عمداً أو عاطفة ذكرها.. وطبيعة
الشعوب أنها عاطفية تتعلق بحلول تحرك فيها هذه العواطف، حتى وإن كانت
زائفة في بعض الأحيان. وإذا كنا نقرأ التاريخ اليوم، فعلينا أن نقرأ كل
شيء، ونرى ما خلف الأحداث، ونفهم طبيعة هذه المجتمعات التي أنجبت أبطالاً،
ونطرق على دراستها أوقاتاً كافية للتعمق والتحقق.
ونعود إلى عقدة الموضوع، فإن كل تغيير مقرون باسم صاحبه، وخير مؤيد لهذا
أن الله تعالى اختار من بين الناس أنبياء ورسلاً، وجعل الرسل قادة وهداة
إلى البشر، فكان اسم هذه الشعوب مقروناً باسم رسلهم، مثل (المسيحيين، آل
لوط، قوم صالح، بنو إسرائيل..)، فلا شك أن الله تعالى يختار من عباده من
يصلح لهذه المهمة، ويكون لديه الاستعداد لتجشم عنائها، والضلوع
بمسؤولياتها.. ولكن يعود لنا السؤال من جديد: هل كل الرسل نجحوا بأن
يكونوا أبطالاً ويقودوا شعوبهم نحو العزة والرفعة والسيادة؟! لقد تحدث
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن رسل لم يتبعهم من شعوبهم إلى القليل،
وتحدث عن رسل كان معهم النفر والرهط، أو يمشي الرسول ويتبعه واحد أو
اثنان، وتحدث عن رسل لم يؤمن بهم أحد.. وهذا يدعونا من جديد للتساؤل: هل
كل من ملك الاستعداد والمؤهلات ليقود الأمة سيقودها بالفعل؟!.. إن الوقائع
طبعاً تجيب بالنفي، وليكن السؤال معكوساً الآن: هل جميع من خلّد التاريخ
أسماءهم من الأبطال والعظماء كانوا يمتلكون المواهب والاستعداد ليكونوا
كذلك؟!..
إن الاستعداد الشخصي والموهبة الفطرية والشخصية القيادية أمور قد تساهم في
إنجاح مهمة العظيم المنتظر، ولكننا لا يمكن أن نغض الطرف عن الظروف
المحيطة التي تهيأ خروج هذا البطل أو العظيم، ولكن قد يكون المجتمع بحاجة
لخروج من ينقذه، فيرضى بأول قائم بهذه المهمة، لأن المجتمع قد يفرز قادة
غير قادرين على القيام بمسؤولياتهم، بل قد يكونون قدرة سيئة لمواطنيهم،
فيبحث الناس عن أول مخلص لهم أو بطل يخرجهم من هذا الوضع.
ومن المحتمل كذلك أن يكون التنافس على القيادة محتدماً وشديداً، كما كان
في قصة بني إسرائيل من بعد موسى: (إذ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ
لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه). فكان أن اختار الله لهم
طالوت ملكاً، فلم يكن ذلك ليعجبهم، ولم تكن الظروف المحيطة به مناسبة
ومواتية، ولكنه صار فيما بعد بطلاً وقائداً منتصراً: (وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ
أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ
اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). البقرة
(247).
ونحن نرى أنه لا بد من توافر هذين العنصرين حتى يخرج من بين ظهرانينا بطل جديد: 1-
الاستعداد المجتمعي لتقبل شخصية البطل المنتظر، والمجتمع حين يدرك ضرورة
التغيير، وصعوبة التعايش مع الأوضاع الحالية، يكون مهيئاً لقبول هذا
التغيير على يد أول قادم مستعد لهذه المهمة، فالبطل إذا لن ينقذ أمة لم
تكن جاهزة ومتهيئة لذلك. 2-
الاستعداد الشخصي، حيث تشير الدراسات الحديثة جداً إلى اختلاف العلماء في
تحديد مجموعة ثابتة من الصفات القيادية كشرط لازم للقائد الناجح، ولكن بعد
الدراسة والتأمل فإني أميل إلى الصفات التالية: ·
الهدف والطموح. ·
الإصرار والإقدام. ·
القدرة على التأثير في الناس.
ونضيف إليها لقادة الأمة الإسلامية: ·
التوازن في الشخصية. ·
الالتزام بشرع الله. ·
التعلق بالآخرة.
وإن هذين البندين متلازمان تلازماً وثيقاً، فإن ضَعُفَ أحدهما كان لابد أن
يقوى الآخر ليسدد النقص، ونعني بذلك أنه إن كان الاستعداد في المجتمع
لقبول فاتح جديد ضعيفاً، فإنه يجب أن يكون هذا الفاتح يتمتع بصفات عالية
جداً حتى يستطيع فرض قبوله على الناس، والعكس أيضاً صحيح، فإن كانت حاجة
المجتمع واستعداده لقبول القائد شديدة وملحة، فإن قبولهم سيكون أسهل
للقادم الجديد، بغض النظر عن بعض صفاته إن لم تصل إلى المستوى المطلوب، بل
قد يتقبل الناس كل من يبرز ويطفئ بعض مشاعرهم أو ينفس بعض همومهم ولو كان
غير مؤهل.
فها هم بنو إسرائيل لم يقبلوا بملكهم الجديد، ولكنه كان ذو قوة وبسطة في
العلم والجسم، وفضله الله عليهم تفضيلاً عظيماً، فكانوا راغمين على قبوله
لكونه يملك من الاستعدادات التي منحه الله إياها ما لا يوجد عند غيره من
أبناء جلدتهم.
والحجاج بن يوسف الثقفي كان أقوى من ضبط الأمور في العراق كونه كان شديد
البأس والضراوة، فيما كان الشعب في بلاد الرافدين لا يستقر عنده حاكم، ولا
يستطع ضبط الأمور فيهم إمام، فالحجاج رغم انحرافه وسوئه استطاع أن يخضع
شعب العراق، لأن هذا البلد في ذاك الوقت كان بحاجة إلى يضبط به الأمور
بالعنف والبطش، لا أن الحجاج كان بطلاً منتظراً!.
بينما قبلت -أو خُدعت- شعوب أخرى بقادتها أو أبطالها ظناً منها بأنهم
الفاتحين أو المحررين لهم من أوضاع طال انتظار تغييرها، وهم في الحقيقة لم
يملكوا الاستعداد المطلوب لتقبل هؤلاء الأبطال، وهم أيضاً لم يقوموا
بتهيئة الظروف لمساعدتهم في هذا التغيير.
وعلى سبيل المثال إن من يقود حرباً بفئة قليلة لا يمكن أن ينتصر فيها ما
لم تكن هذه الفئة القليلة قوية بوحدتها وتماسكها وحرصها، وفي ديننا: قوة
إيمانها وثباتها وعقيدتها. وعلى العكس، فإن رجلاً يقود حرباً بجند
متخاذلين أو متفككين أو لا يرغبون بخوض هذه الحرب أصلاً؛ لن يحقق النصر
حتى ولو كان صنديداً من صناديد القتال، أو شخصية أسطورية كالتي نراها في
الأفلام..!
أضف إلى ذلك أن لا يشترط بالبطل القادم أن يدكَّ حصوناً، أو يقوم بحروب
ضروس، بل إن المطلوب هو تغيير مجتمعات طال عليها أمد الجهل والتخلف،
وإخراجها من تبعية الآخرين إلى الاستقلال الذاتي والحضاري بكل مفاهيمها.
وفي الختام إن الرأي أن البطل المنتظر لا يعني أن يكون فرداً بعينه، أو
شخصية نطمح لوجودها، مع أن التاريخ قد أوجد شخصيات كهذه، ولكن التحرك
الفعال بين المجتمع وهذه الشخصية، كان دوماً هو المكمل لدورها، والباعث
لها.
إن البطل المنتظر الآن هو المجتمع ذاته، الذي يخرج لنا أفراداً ومؤسسات
وهيئات تشكل بمجموعها نقطة التحول والانطلاق، وتدأب على العمل الحثيث حتى
تتمكن من التغيير المطلوب للأمة، وهكذا تسير المنهجية والواقعية في
الحياة، لا أن نطمح ونجمح بأحلامنا إلى قادم أسطوري ينبش الأرض ويقلب
الأمور، وإن كان ثمة شخص كهذا، فإنه لا شك أن من ورائه آلافاً من الناس هم
صناع هذه الشخصية، وهم دعاماتها وأركان عملها، بل إن وراءه مجتمعات حقيقة
كاملة